السياق التاريخي
على الرغم من التغييرات التاريخية والمؤسسية والسياسية المعقدة، تحتفظ مصر بإرث ثقيل من سيطرة الدولة على المجال العام، ولا يعد المشهد الإعلامي استثناءً من هذه القاعدة. ويتم استخدام المؤسسات الإعلامية والأطر القانونية دائما لتعزيز سطوة كل سلطة حاكمة. وعلى مر السنين وبغض النظر عن قوتها ، فقدت وسائل الإعلام المملوكة للدولة مصداقيتها (ارتباط تشعبي للسياق الاجتماعي)، وينظر إليها الآن كناطق رسمي باسم الحكومة من ناحية، وكعنابر للموظفين ومصدرا للخسائر المالية اليومية للمال العام. ويساهم اعتماد قوانين الإعلام لعام 2018 (ارتباط تشعبي لسياق القانون) في تعزيز حقيقة أن السلطة السياسية اختارت قادة قطاع الإعلام وشكلت هذا القطاع لصالحها.
قطاع الطباعة: الأقدم لكنه ليس الأكثر جرأة
نشأ قطاع الطباعة في القرن الثامن عشر مع قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر وسوريا (1798 - 1801). وقد تطورت الطباعة بشكل واضح كأداة للدعاية لقوى الاحتلال، ولم تُستثنى من مقصلة الرقيب، كما سيطرت عليها السلطة السياسية والتنفيذية، وعانت من وجود تدخلات صارخة.
ولاحقا، تم اتخاذ بعض المبادرات لإلغاء الخطوط الحمراء للرقابة، مع إنشاء وسائل إعلام مثل صحيفة المصري اليوم (ارتباط تشعبي لملف التعريف الإعلامي)، ومن قبلها، ظهرت الصحافة الحزبية في سبعينيات القرن العشرين، وتم دمقرطة البلاد في الثمانينيات. إلا أن وسائل الإعلام المطبوعة كانت مرتبطة إلى حد كبير بالسلطة، بما لا يؤدي إلى استقلال السياسة التحريرية. ومنذ القرن التاسع عشر، تم تبني ثلاثة قوانين لتنظيم قطاع الطباعة: في عام 1881، وعام 1996، وعام 2018، وكلها قوانين جاءت قمعية وقاسية ومعادية للحرية.
قطاع البث: اﻷداة الرسمية للدعاية
لم يكن لدى التليفزيون والإذاعة الطموحات السياسية نفسها في البداية. ومع ذلك، فإن شعبية التليفزيون والإذاعة جعلت من كلاهما لاحقا أدوات للدعاية السياسية. وقد ظهرت المحطات الإذاعية في عشرينيات القرن العشرين لتكون صوتًا للمجتمعات المختلفة، وأمكن الوصول لها في شتى أنحاء البلاد، مما خلق مساحة لحرية الرأي في بدايته. وعلى عكس ذلك، تم تأسيس التلفزيون بشكل رسمي كإعلام مملوك للدولة في عام 1960، وسريعا ما استحوذ التلفزيون على الشعبية التي تمتع بها الراديو. منذ خمسينيات القرن العشرين بات قطاع البث بشكل رئيسي خاضعًا لسيطرة الدولة، وهو توجه ما زال قائمًا حتى
> 1881 - 1923: سيطرة القوى الأجنبية
في عام 1881 صدر قانون المطبوعات، والذي يعتبره معظم المراقبين الصحافيين المصريين أسوأ قانون للمنشورات في تاريخ الصحافة، حيث منح القانون للسطات المصرية صلاحيات واسعة في منع ومصادرة وإغلاق وسائل الإعلام المطبوعة. بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر (1882 - 1952)، تم اتهام العديد من الصحف بدعم ثورة عرابي، ووفقا لقانون المطبوعات كان لزاما على هذه الصحف أن تغلق، وتعرض الصحفيون للسجن. سمح ذلك لسلطة الاحتلال أن تفرض سيطرة كاملة على سوق الصحافة في مصر. ومع انتفاضة عام 1919، التي أدت إلى إنشاء مملكة مصر والاستقلال عن المملكة المتحدة، تم تبني دستور جديد في عام 1923، وخلقت هذه التغيرات مناخا سياسيا مفتوح نسبياً. نصت المادة (15) من دستور 1923 على "الصحافة حرة في حدود القانون. والرقابة على الصحف محظورة. وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي".
> 1923- 1952: العصر الذهبي
بعد ثورة 1919، بدأ المشهد الإعلامي المصري حقبة جديدة من التألق تتميز بالتعددية والتنوع. ظهرت الإذاعات الأهلية كاستجابة لحاجة اجتماعية قادتها النخبة النشطة في المجتمع لخلق مساحة للتواصل مع الجمهور بحرية أكبر ودون خضوع للرقابة. تم إطلاق إذاعة "مصر الجديدة"، أول محطة إذاعية أهلية، في القاهرة في عام 1925. وبما أنه لا يوجد إطار منظم لعملية تشغيل محطة إذاعية، تم اعتبار اﻹذاعة آنذاك مساحة حرة تمامًا للتعبير عن الرأي. لذلك، تم إطلاق العديد من المحطات الإذاعية المحلية في جميع أنحاء البلاد. في عام 1932، تم إنشاء "محطة راديو سكمبري" و "محطة راديو فيولا" في الإسكندرية. وفي نفس الوقت، شهدت مصر أيضًا صدور 152 صحيفة ومجلة، تناولت الموضوعات الفنية والثقافية والدفاع عن حقوق النساء. وقد أدى هذا العصر المزدهر في الصحافة المصرية إلى إنشاء نقابة الصحفيين المصرية عام 1941، برئاسة الصحفي محمود أبو الفتح، والذي كان رئيسا لتحرير جريدة المصري، كما اعتاد أبو الفتح على منح مشورته للزعيم السياسي سعد زغلول، فيما يتعلق بالوصول للصحافة الأجنبية لتعزيز محاولات مصر لنيل الاستقلال. ولكن تجربة نقابة الصحفيين لم تدم طويلاً.
أدت شعبية المحطات الإذاعية إلى استغلال تلك المحطات سياسيا، حيث اعتادت محطات الإذاعة في البداية على بث رسائل قومية ومعادية للبريطانيين، وسرعان ما أصبحت تطالب بالاستقلال التام. في ذلك الوقت، كانت المحطات الإذاعية المحلية تمثل واحدة من أهم قنوات الاتصال مع الجمهور. هذا ما دفع المندوب البريطاني في مصر إلى إصدار مرسوم في عام 1932 يلغي فيه قراره الصادر في عام 1926 بعدم إنشاء أي محطة إذاعية حكومية. هذا المرسوم كان يجرم إنشاء إذاعات أهلية لذلك دعا البريطانيون مالكي المحطات الأهلية إلى التعهد بإغلاق محطاتهم فورا، مانحةً شركة الاتصالات البريطانية ماركوني حق إنشاء وإدارة محطة إذاعية رسمية لمدة 10 سنوات (قابلة للتجديد). بموجب هذا العقد، تحتكر الحكومة المصرية المحطة الإذاعية، التي أنشأتها ماركوني كما يذكر العقد أن الحكومة المصرية يمكن أن تبث نشرات رسمية وبيانات ومبادئ توجيهية إلى الجمهور، فضلاً عن صلاحية الحكومة في فرض الرقابة على البرامج. ولم يُسمح بإذاعة الإعلانات، بدأت المحطة في البث 1932وتم تمويلها عن طريق حصولها على 60٪ من المبالغ التي يدفعها الجمهور في مقابل الحصول على خدمة الإذاعة بينما يتبقى 40% للحكومة.
وظهر أول نظام للرقابة على البث آنذاك، من خلال إنشاء لجنة مُكونة من خمسة أعضاء، ثلاثة أعضاء تُعيِّنهم الحكومة وعضوان تُعينهُما الشركة. على أن تتولى اللجنة مسئولية الرقابة على كافة البرامج اﻹذاعية. وكان أول من ترأس تلك اللجنة العليا الجراح المصري وعميد كلية الطب وقتها ورئيس الجامعة المصرية فيما بعد الدكتور علي باشا إبراهيم.
انتهى عقد ماركوني مع السلطة المصرية في 30 مايو 1944. ثم وافق الطرفان على تمديد العقد لمدة خمس سنوات إضافية. وقد أثيرت التوترات السياسية بين الحكومة المصرية والقوى الأجنبية، حيث ألغت الحكومة المصرية العقد في منتصف عام 1946. بعد ذلك، تم تأميم الإذاعة بالكامل وأصبحت تحت السيطرة الكاملة للسلطة المصرية في 30 مايو 1946.
> 1952 - 1995: تعديلات مستمرة في حرية الإعلام
بعد ثورة 23 يوليو 1952، والتي استهدفت الإطاحة بالملك فاروق، بدأت حقبة جديدة للإعلام. بدأ التحول في مصر إلى النظام الجمهوري، كما ألغت حركة الضباط الأحرار اﻷحزاب السياسية وأممت الحياة السياسية. ويعرف الضباط الأحرار بكونهم مجموعة من الضباط القوميين المصريين، الذين قاموا بالتحريض على الثورة. وكان للضباط الأحرار طموح عسكري للعب دور مركزي في المنطقة، لذا فقد رأوا وسائل الإعلام كواحدة من أهم الأدوات لتحقيق هذا المشروع، إلى جانب تعزيز سياسات النظام الناشئ.
في 24 مايو 1960، صدر قرار جمهوري بتأميم جميع الصحف والمجلات في مصر، لتصبح تحت الإدارة الكاملة للدولة، والتي اختارت محرريها، وحددت محتواها.
كان أكبر وأهم الدلالات على حدوث انتكاسة لحرية الصحافة خلال تلك الحقبة هو تجاهلها وتدليسها في نقل الأخبار بشأن حرب عام 1967، في حين كانت أغلب وسائل الاعلام المملوكة للدولة تنشر أنباء عن انتصار الحيش المصري والذي كان في الواقع مهزوم من إسرائيل. وتسبب ذلك في فقدان مصداقية وسائل الإعلام الوطنية هذه في أوساط شريحة كبيرة من الجمهور، وهو ما استمر لفترة طويلة من الزمن.
عندما تولى الرئيس أنور السادات منصبه في عام 1970 بعد وفاة ناصر، قاد مصر إلى الحرب ضد إسرائيل، حتى انتصار أكتوبر 1973. وبعد ذلك بعام، وافق على وثيقة أكتوبر 1974، التي تعهد فيها برفع الرقابة على الصحف باستثناء المسائل العسكرية. ثم دعا السادات إلى إقامة أحزاب معارضة للمرة الأولى منذ عام 1952. وأنشئت آنذاك ثلاثة أحزاب، وأصبح لكل حزب منها صحيفة.
- قام الحزب الاشتراكي العربي المصري (الحزب الوطني الديمقراطي) ، بقيادة السادات ، بإصدار صحيفة " مصر".
- أطلق الحزب الاشتراكي الليبرالي ، بقيادة مصطفى كامل مراد صحيفة "الأحرار" ،
- أطلق الحزب الوحدوي التقدمي الوطني بقيادة خالد محي الدين، واحدا من قادة ثورة يوليو ، صحيفة "الأهالي".
قبل توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، أصدر الرئيس السادات تعليماته للصحفي أنيس منصور، والذي كان ضمن دوائره المقربة، بإنشاء منصة صحفية وهي مجلة أكتوبر. يُقال إن السادات قد راجع مسودات أعدادها بنفسه، وأجرى بعض التعديلات التحريرية. أصبحت مجلة أكتوبر المنصة الرئيسية للدفاع عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل وقبول معاهدة السلام معها. بينما عارضت الصحافة الحزبية وعدد قليل من كتاب الصحف القومية (المملوكة للدولة) سياسات الدولة المصرية تجاه الصراع المصري الإسرائيلي.
ولكن على مر السنين، قمع الرئيس السادات الأصوات، التي اعتبرها يمكن أن تعكر صفو المفاوضات حول عملية السلام مع إسرائيل. ففي سبتمبر 1981، أمر بسجن معظم قادة الفكر والدين، وكان من ضمنهم صحفيون مثل الكاتب محمد حسنين هيكل، والذي كان رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام في الفترة من عام 1959 وحتى عام 1974 (رابط تشعبي إلى ملف الوسائط الإعلامية). أمر السادات بإلغاء تراخيص بعض الصحف والمنشورات مع التحفظ على أموالها ومكاتبها، بدعوى إثارة النزاع الطائفي. لكن السادات لم يكمل هذه الإجراءات نظرالاغتياله.
في عام 1981، تولى الرئيس مبارك قيادة البلاد. وكان أول تحرك له هو الإفراج عن 31 سجينا ممن سجنهم السادات. كما رفع مبارك الرقابة عن الصحف وأعطى قدرًا لا بأس به من الحرية للصحفيين في العمل. لكن هذا لم يكن إلا فاصلا سعيدا.
> 1995 - 2011: المزيد من حرية الإعلام
في عام 1995، حاول مبارك تمرير القانون رقم 93 لعام 1995الذي وضع عقوبات بتهمة التشهير ونشر ما يسمى بالمعلومات الكاذبة والمواد الاستفزازية - بالسجن لمدة خمس سنوات على الأقل والذي اعتبر خطوة للخلف من قبل الغالبية العظمى من قادة الإعلام والمؤسسات القومية. ويهدف هذا القانون المقيد إلى فرض سيطرة السلطة التنفيذية بالكامل على قطاع الإعلام. واضطر مبارك إلى عدم المصادقة على القانون، وإصدار قانون أكثر مرونة في عام 1996.
بعد بضع سنوات، مع بداية الألفية الثالثة، اضطرت سلطة الرئيس مبارك إلى دفع البلاد نحو المزيد من الحريات الديمقراطية. ازدهرت وسائل الإعلام المملوكة للقطاع الخاص، وتمكنت أن تملأ الفراغ الذي تركته وسائل الإعلام القومية الراسخة.
في موازاة ذلك، أدى ظهور الإنترنت وتطور وسائل التواصل الاجتماعي إلى وضع سلطة مبارك في مواجهة مع شرائح كبيرة من الطبقة المتوسطة المتعلمة من الشباب، مما ساهم في إندلاع ثورة يناير 2011.
> 2011 وحتى اﻵن: العودة إلى القمع مجددا
منذ عام 2011، زاد تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام بوتيرة ثابتة، مع الانفتاح الهائل الذي خلقته الثورة في المجتمع. بعد ثورة 2011 ، كان هناك العديد من المطالب داخل المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة لإصلاحها ، لكن لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية ولا حركات سياسية ونقابات عمال قادرة على إرغام الأنظمة المتعاقبة على اتخاذ خطوات في إصلاح وسائل الإعلام المملوكة للدولة.
إن إعادة الحريات الأساسية والتدفق غير المسبوق، الذي شهدته الساحة الإعلامية والصحفية، دفع العديد من المراقبين إلى اعتبار الإعلام قوة دافعة، في أحداث 30 يونيو 2013، التي عزلت فيها القوات المسلحة المصرية الرئيس السابق محمد مرسي، ممثل جماعة الإخوان المسلمين.
ومع ذلك، فإن سلطة يوليو 2013 بقيادة قائد الجيش آنذاك عبد الفتاح السيسي - الرئيس الحالي في ولايته الثانية - أدركت من الناحية العملية أهمية الإعلام في تعبئة الجمهور وتوجيه الرأي العام في العديد من القضايا الرئيسية. أدى هذا الوعي إلى بدء عملية واسعة النطاق تهدف إلى إعادة ترسيم المشهد الصحفي والإعلامي في مصر، من أجل إعادة إخضاع وسائل الإعلام وضمان السيطرة عليها.
خلال السنوات القليلة الماضية جرى إعادة تشكيل المؤسسات المنوط بها تنظيم الشأن الصحفي والإعلامي في مصر، عن طريق تشكيل هيئات مستقلة جديدة. احتفظت السلطة بحقها في تشكيل مجالس تلك الهيئات. كما تم الانتهاء من البنية التشريعية، التي تحكم الصحافة والإعلام، حيث صدرت ثلاثة قوانين جديدة، تُرسِّخ من هيمنة الدولة على وسائل الإعلام والصحافة سواء الخاصة أو المملوكة للدولة.